كيفية هروب الميكروبات من الخلايا المناعية : حرب العصابات والإنقلاب علي الذات
أ.د. محمد لبيب سالم
أستاذ المناعة
كلية العلوم – جامعة طنطا
مدير مركز التميز لأبحاث السرطان بجامعة طنطا
خلق الجهاز المناعي بخلاياه الغير متخصصة ، كالبلعمية والشجيرية والقاتلة ، و خلاياه المتخصصة وهي المعروفة بإسم الخلايا الليمفاوية بأنواعها الثلاث المساعدة والقاتلة والمفرزة للأجسام المضادة المعروفة بالانتي بودي، لكي يهاجم الجسم الغريب ويتخلص منه بسرعة فائقة ويكون مناعة طوال الحياة تتذكر هذا الجسم وتتخلص منه فورا إذا فكر وقام بغزو الجسم مرة أخرى.
وتواصل وتتحدث هذه الخلايا سويا بآليتين إحداهما عن طريق التلامس كتفا بكتف من خلال الأغشية الخلوية التي تحيط بها وذلك عن طريق لغة دقيقة جدا كلغتنا تسمي لغة المستقبلات حيث تتلامس المستقبلات بين الخلايا بعضها ببعض فتؤثر ووتتأثر لتنشط الخلايا وتتكاثر وتفرز بروتينات مهمة جدا تسمس الانتيرليوكينز أو السيتوكاينز وهي المسؤولة عن الطريقة الأخري من التحدث والتواصل بين الخلايا المناعية.
وتفرز الخلايا أنواع مختلفة من هذه البروتينات كل له دور محدد في سير رد الفعل المناعي. فمنها من يزيد من درجة نشاط الخلايا الغير متخصصة مثل النتيرليوكن ١ ومنها ما يزيد من نشاط وحيوية الخلايا المتخصصة مثل انتيرليوكن ٢. ومنها ما يزيد من نشاط وحيوية كلا النوعين مثل انتيرليوكين ١٢. ومنها من يقوم بقتل الخلية المصابة بالفيروس مثل الإنتيرفيرون ، ومنها ما يقوم بقتل الخلية المصابة بالبكتيريا مثل البروتين المحلل للخلايا (TNF-alpha) وهكذا .
وهناك نوع مهم جدا يسمي “الكيموكاينز” وهي التي تقوم بدور المنادي علي الخلايا المناعية سواء الغير متخصصة أو المتخصصة والتي تسكن بعيدا في الجسم لتهرول إلي مكان المعركة المناعية للمشاركة وبذل الجهد المطلوب. ويحدث هذا التحدث والتواصل أيضا عن طريق مستقبلات متخصصة لهذه الكيموكاينز علي كل خلية مناعية. وعادة ما تنجح هذه البروتينات في جذب العديد من الخلايا لتقوم الخلايا المناعيه مجتمعة بمساعدة ما صنعته من رصاصات تصوب بدقة ومواد كيميائية حارقة تصب أيضا بدقة علي أهدافها ، في قتل الميكروب وأي خلية مصابة بالميكروب ليصبح الجسم معافي تماما وجاهزا من خلال الذاكرة المناعية التي تكونت ضد الميكروب.
ولكن وللأسف تحدث أحيانا نكسة كما في الحروب تماما ولا يستطيع الجهاز المناعي بكل جيوشه صد هذا الغزو الميكروبي. والأسباب عديدة،ومن ضمن الأسباب أن أعداد الميكروب التي تغزوا الجسم تكون هائلة جدا فلا يستطع الجهاز المناعي أن يقضي علي الميكروب تماما ولذلك فما يتبقي من الغزو الميكروبي يكون بؤورا ميكروبية تنتشر رويدا رويدا في وقت يقصر أو يطول لينشط الميكروب من جديد ويعيد الكرة بعد أن تكون الخلايا المناعية قد أنهكت.
وهناك سبب أخر وهو ضعف في الجهاز المناعي نفسه نتيجة سوء تغذية أو عدم نوم كافي أو الصغوط النفسية والعصبية أو تعاطي أدوية مثبطة للجهاز المناعي أو تعاطي مخدرات. في هذه الحالة لا يستطيع الجهاز المناعي الرد بقوة كافية وسريعة لعدم كفائته والوقت الذي يتطلبه لنشاطه يكون أبطأ بكثير من معدل تكاثر الميكروب داخل الخلايا ومعدل إنتشاره من خلية إلي خلية مما يتيح للميكروب الفرصة للإنتشار السريع والتمكن من فريسته بسهولة.
السبب الآخر هو خبث الميكروب نفسه ، فقد طورت معظم الميكروبات طرق فعالة ليس فقط للهروب من الخلايا المناعية بل لتثبيط نشاط الخلايا المناعية نفسها. فعلي سبيل المثال تقوم العديد من الفيروسات بتجديد جلدها كما تفعل الثعابين فبعد أن تبذل الخلايا المناعية كل قواها في التعرف علي الميكروب من جلده وتنهك في المعركة الأولي يقوم الميكروب وبكل ببساطة بسلخ جلده ولبس جلد أخر وهكذا مما ينهك الخلايا المناعية ويصيبها بالإحباط والإرتباك مما يعطي الميكروب الفرصة في الهروب والنجاة بحياته. وتقوم البكتيريا أيضا بالهروب من الخلايا المناعية بطرق مشابهة خاصة أن هناك العديد من البكتيريا تلبس ما يشبه البالطو علي ملابسها فبمجرد أن تتعرف الخلايا المناعية علي هذا البالطو علي أنه جسم غريب وعدو وتعد العدة والعتاد لذلك وتنهك ، تقوم البكتيريا بخلع هذا البالطو لتظهر عن ملابسها وجلدها الحقيقي الذي غاب عن أعين الخلايا المناعية وبذلك تهرب البكتيريا وتصول وتجول في كل أرجاء الجسم.
إنها حرب الأقنعة وحرب العصابات وحرب المخابرات من كلا الطرفين العدو والخلايا المناعيه ،وهناك سببا أخر و هو وجود نوع من الخلايا المناعية للأسف بوجهين حيث أن خطر هذه الخلايا علي الخلايا المناعية نفسها أشد من خطر الميكروب وذلك نظرا لأنها أولا من المفروض أن تكون كامنة ولا تعمل أبدا إلا بعد أن تنهي الخلايا المناعية وظائفها القتالية والإنتصار علي الميكروب والتخلص منه نهائيا فتقوم هذه الخلايا كدور الفرامل لتحد من النشاط المفرط الخلايا المناعية فتعود لطبيعتها حتي لا يتأذي الجسم من إستمرار المعركة ونفوق الميكروب مما قد يؤدي اللي أمراض ذاتية المناعة . ولكن وللأسف الشديد هناك حوالي ثلاث أنواع أو اكثر من هذه الخلايا ، والتي تعرف كيف تفرمل النشاط الزائد للخلايا المناعية ، تقوم بإستخدام نفس الأسلوب ولكن للأسف بمجرد بدء نشاط الخلايا المناعية والقيام بوظيفتها لقتل العدو.
فبدلاً من أن تصبر وتنتظر حتي تنتهي الخلايا المناعية من المعركة تنقلب علي الخلايا المناعية وتوقفها عن نشاطها في بدء المعركة فتتحول من صديق إلي عدو.
وللأسف فهذه الخلايا لا تنقلب من تلقاء نفسها بل تحت تأثير سافر من الميكروب الذي يحثها علي الإنقلاب وهي ترضخ لأوامره لصالحه وضد الجهاز المناعي. وكل ما يفعله الميكروب هو إفراز مواد يعلم تماما أنها المحرك وراء وظيفة هذه الخلايا فبخبث ومكر شديد يدفع الخلية التي يغزوها الي افراز هذه المواد فور غزوه إياها وما أن تصل هذه المواد لبعض الخلايا المناعيه حتي تنقلب علي الجهاز المناعي في كل أرجاء الجسم فتشل حركته تماماً.
من علم الميكروب كل الخبث وكل هذه الحركات البهلوانية للهروب من عدوه ، لا أحد يعلم ، والبحث جاري للكشف عن هذه الأسرار المخابرتية،ولحسن الحظ تنبه العلماء إلي هذه الوسائل فكشفوا عن الكثير منها بل قاموا بتطوير وسائل مضادة للحيلولة دون هذا الهروب الميكروبى وبالفعل وصل العديد من هذه الوسائل إلي الصوره النهائية من البحث وتحول إلي منتج دوائي يشفي المرضي من الإصابات الميكروبية التي تتميز بحث الخلايا المناعية علي الإنقلاب علي نفسها،وما الأدوية التي نتناولها أثناء العدوي الميكروبية إلا لكي تزيد من كفاءة الخلايا المناعية لتكون قادرة علي صد الهجوم بحزم وقوة أو لكي تحل محل الجهاز المناعي المنهكة قواه لأي سبب من الأسباب.
وما أعراض الإصابة الميكروبية من إرتفاع في درجة الحرارة والرشح والألم وأحيانا القئ وخلافه إلا وسائل يستنجد بها الجهاز المناعي صاحبه إما لكي ينتبه إلي المعركة الجارية بداخله فيتنبه ويبتعد عن أي أسباب قد تزيدها أو كوسيلة لطلب العون والمدد من أدوية وخلافه،وفي كل الحالات يعمل الجهاز المناعي بكل جدية ونشاط وإخلاص دون أن يعلم صاحبة إلا إذا تتطلب الأمر التدخل الخارجي أيضا من أجل صاحبه.
ولا يبقي إلا أن نحافظ علي هذا الجهاز الرائع الذي يعلوا فوق كل الأجهزة فيكفي أن خلاياه لا تسكن أبدا كباقي الخلايا بالجسم بل تتحرك يمينا وشمالا وليلا ونهارا ونحن نائمون ونحن مستيقظون من أخمص القدم حتي منبت الشعر باحثة عن عدو مختبأ هنا أو هناك حتي لو كان سبب دخوا هذا العدو هو نتيجة إهمال منا،تحية إلي الجهاز المناعي الذي وإن إنقلبت بعض خلاياه عليه فهي بسبب خبث الميكروب والطاعة العمياء الذي جبلت عليه خلاياه المخلصة . فرفقا بالجهاز المناعي وساعدوه علي القيام بواجباته ولا تنهكوه قبل أن ينهك فينهك صاحبه.